الاخوان بين الدعوة والدولة


فى السياسة تتداخل المفاهيم ويتم التلاعب بالألفاظ حتى يستطيه أهل السياسة تحقيق أهدافهم والانتصار لأفكارهم وبرامجهم وهذا عماده فى الأساس عندهم هو هدم الطرف الآخر أو المنافس وتشويه صورته فضلا عن فكرته من أجل ان ينفض الناس عنهم وهنا يتداخل الحق بالباطل والصدق بالكذب والحقيقة بالتلفيق وخصوصا فى بلادنا العربية عموما ومصر فى القلب منها خصوصا حيث تعشش الديكتاتوريات وتضيع الحقوق وتسجن الحرية ويتوغل الأمن وتمتلئ السجون والمعتقلات وتحجب الأصوات عن الاعلام الذى يمسخ هو الآخر ليصبح ببغاءا للديكتاتوريات يكرر ما يقولون ويسفه من يعارضون وهذا الأمر أصاب أشد ما أصاب جماعة الاخوان المسلمين ودعوتها وأفكارها فشوهت دعوتها وسفهت أفكارها وحورب قادتها وأعضاؤها حتى اختلط على الناس فهم دعوة الاخوان ومشروعهم الاصلاحى فاختلط الحابل بالنابل من خلط واضح بين المواقف السياسية المتحركة والمشروع الاصلاحى الثابت فشوهت الصورة فى عيون الناس معتمدين فى ذلك على الحالة الثقافية والتعليمية المتردية لهذا الشعب المسكين وقد أشيع فى سبيل ذلك التشويه الممنهج والمقصود شبهات عدة ابتداءا من العلاقة بين الدين والسياسة ومرورا بالدولة الدينية والدولة المدنية وليس انتهاءا بالعلاقة بين الدعوة والدولة .فملأوا عقول الناس بتفاهات ومنعوا الاخوان من شرح وجهة نظرهم وتبيين فكرهم للناس الذين يفترض بهم أن يكونوا هم القاضى الوحيد فى الحكم على الأفكار المختلفة والسياسات المتعددة كما تقول الديمقراطية ولكن هذا هو حال الديكتاتوريات دوما منذ فجر التاريخ .
وهنا لست أنا بصدد الحديث باسم الاخوان فهذا شرف لا أدعيه وفضل لا أنكره ولكنى هنا أتحدث عن وجهة نظرى فقد يتفق معها الاخوان أو يختلفوا ولكنها ومن المؤكد هى نظرتى الشخصية وتحليلى حسب فهمى فان أصبت فلى أجرين وان أخطأت فلى أجر واحد ان شاء الله تعالى .
لقد تحولت جميع الدعوات فى التاريخ تقريبا الى دول أو كادت ان تصبح وللأسف ايضا انتهت هذه الدعوات بانتهاء هذه الدول ففى التاريخ الاسلامى مثلا كانت الدعوة العباسية كما كانت دعوة الموحدين والمرابطين فى الشمال الأفريقى والدولة الفاطمية فى مصر وليبيا حتى الدعوة الشيعية ونظريتها السياسية "الامامة" تحولت الى دولة فى ايران ويعلم الله مستقبلها وان كنت أتوقع أن يؤول مستقبلها كما آل اليه مستقبل سابقاتها وذلك لأسباب عدة ليس الآن مجال شرحها .
ودعوة الاخوان المسلمين وان كانت لم تتطرق فى أدبياتها الى هذا المستقبل هى سائرة فى نفس الطريق الذى سارت فيه الدعوات من قبل شاءت أم أبت ولكنها لم تضع قدمها بعد على مفترق الطرق ومن أجل ذلك فهذا هو وقت الكلام والتنظير قبل ان تحين اللحظة التى لن يكون للكلام فيها فائدة .
ان انتشار الديمقراطية والدولة الحديثة فصل بناء الدولة من مؤسسات وسلطات عن الأفكار والدعوات . فجعلت بناء الدولة بيتا فارغا تتناوب على دخوله الأفكار والأحزاب فترة ما حتى اذا ما كرهها سكان هذا البيت ورأوا أنها غير مناسبة لهم فتحوا الأبوب والنوافذ حتى تخرج هذه الفكرة أو تلك الدعوة فتدخل غيرها وبذلك يتجدد شباب هذه الدولة وتستعيد حيويتها .
ان  التزام الاخوان المسلمين بالديمقراطية كحلبة للتصارع السياسى وكطريق للوصول الى الحكم قد يجعل أمام هذه الدعوة فرصة للبقاء والخلود على عكس سابقاتها وذلك اعتمادا على التالى  :
1-     ان مشروع الاخوان الاصلاحى مبنى اساسا على التربية وذلك يستلزم الاعتماد على رضا الناس واختيارهم راضين غير مجبرين ومحبين غير مضطرين وقد ظهر هذا واضحا فى بعض مواقف الاخوان السياسية كموقف " المشاركة لا المغالبة " وموقفهم فى بعض الدول العربية كاليمن والسودان من رفض استلام السلطة والقفز عليها رغم أن الفرصة كانت مواتية لهم .
2-   انه من يعتقد من داخل الاخوان بفكرة الحاكمية من وجهة النظر القطبية يؤمن بغير شك فى أنه لا يجوز جبر الناس على حكم ما أو على فكر ما وان كان هذا الحكم هو حتى حكم الشريعة  فان مقتضى الرسالة الالهية التى أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم هى التبليغ وليس النتائج لقول الله عزوجل "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته ".
3-   ان بقاء فكرة الاخوان ودعوة الاخوان وجماعة الاخوان  خارج مؤسسات الدولة وأجهزتها الرسمية "اذا وصل الاخوان الى سدة الحكم " هى ضمانة مهمة جدا لبقاء الجماعة ككيان وبقاء دعوتها حية لا تلوثها ولا تلونها حوادث السياسة التى تقع للدول من هزائم وانكسارات وهذا يضمن لها أن تعيد تقييم نفسها وتصحيح أوضاعها لتعيد تقييم الموقف من جديد وتبدأ فى الطريق مرة أخرى عندما يدعو الداعى الى ذلك .
4-   ان الديمقراطية نفسها كنظام لتبادل السلطة حسب اختيار الناس عن طريق الانتخاب لهو نظام مناسب جدا لابقاء الاخوان دعوة وجماعة فى طور الحياة لأن الناس ان منحوا  ثقتهم للاخوان فى دورة ولم يحسن الاخوان الأداء أو أساءوا فلن يعود الناس الى انتخابهم مرة أخرى وهذا وحده كاف لايقاظ الجماعة من غفلة أو خطأ تكون قد اقترفته وهذا عامل حيوى فى الحفاظ على شباب الجماعة وحيويتها .

ان  أروع ما يجب على الاخوان انجازه والعمل فى سبيله حقا هو " اقامة  الدولة المصرية الحديثة " دولة مؤسسات حقيقية تعتمد على الديمقراطية مماثلة للدول الغربية فى بنائها ومختلفة معها فى علمانيتها قوام هذه الدولة دستور حقيقى يرتضيه الشعب كله أو غالبيته ليكون ميثاق هذه الدولة وتعمل مؤسسات هذه الدولة على الحفاظ عليه وتتنافس الدعوات والأفكار والأحزاب مع بعضها  حتى ينالوا ثقة الناس فيرشحوهم ليسكنوا بناء هذه الدولة ويديروا أمورها فترة من الزمن ثم يعيد الشعب تقييمهم مرة أخرى وهكذا دواليك.

ان  أسوأ السيناريوهات فى نظرى هو أن يصل الاخوان لسدة الحكم ليقيموا ما يسمونه ب " دولة الخلافة " ويقبعوا على الكرسى بحجة اقامة الشريعة وتعبيد الناس لله ويجعلوا من أنفسهم أولياء على  الناس ويحكمون فى الأرض باسم الله عزوجل وهذا هو نفس ما فعلته الدعوات السابقة وسقطت به . قد تكون الأحوال فى بداية سنوات هذا الحكم جيدة ولكنها ومن المؤكد أنها ستسوء وستفقد الدعوة قدسيتها كما ستفقد الدولة قوتها وتعود الكرة من جديد ونبحث عن طريق للخلاص من هذه الديكتاتورية من جديد وان كنت أظن هذا  احتمالا  ضعيفا فنحن جميعا الآن عندنا ثقافة التبليغ كما أن الفقه السياسى الاسلامى قاعدته الأساسية  قول الله عزوجل " وشاورهم فى الأمر " وقوله جل شأنه " وأمرهم شورى بينهم " وهذا لا يجيز لنا جبر الناس على حكم معين أو على حاكم معين وان كان هذا الحكم بالشريعة أو ذلك الحاكم صحابى  .
ولنا فى موقف عمر بن عبد العزيز من خلعه لبيعة الحكم الوراثى علانية أمام الناس جميعا ثم أعاد الناس مبايعته بملء ارادتهم واختيارهم هذا بالنسبة للحاكم .
أما بالنسبة للحكم .. وأيضا مع عمر بن عبد العزيز عندما دخل جيشه الفاتح احدى البلاد دون أن يعرض عليهم ثلاثية الجهاد من الاسلام أو الجزية أو السيف فأخرجه عمر رحمه الله  مرة أخرى من المدينة بعد فتحها ليعرض على الناس من جديد هذه الاختيارات الثلاثة فقبلوا بالاسلام وذلك رغم كونهم غير مسلمين ورغم كون الجيش الفاتح سيقيم حكم الشريعة .. ولكن هذا هو الفهم الصحيح للسيا سة الاسلامية وشوريتها العتيدة وحريتها المقدسة .

وختاما  أكرر ما قاله العلامة الدكتور توفيق الشاوى من أن جماعة الاخوان المسلمين هى " ملك للأمة كلها " وليست ملكا للاخوان فقط يتحكمون فى مصيرها كيف شاؤوا فحتى وعندما يصل الاخوان الى مبتغاهم ان شاء الله  وحققوا مشروعهم الاصلاحى  فلابد وأن تبقى الجماعة والدعوة حارسين أمينين لهذا الاصلاح وتقومانه عند اعوجاجه لا أن تنتهى مع نجاح المشروع أو حتى لا قدر الله بعد سقوطه  من بعد النجاح .

                                                                              

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق